في بداية العلاقة، قد يبدو الشريك النرجسي جذابًا، ساحرًا، وواثقًا بشكل يثير الإعجاب. يُتقن فن الإغواء العاطفي، يُشعرك وكأنك الشخص الأكثر أهمية في الكون، ويغدق عليك بالاهتمام والكلمات المعسولة. لكن سرعان ما تبدأ هذه الصورة المثالية في التلاشي، شيئًا فشيئًا، لتظهر خلفها ملامح شخصية مُتمركزة حول ذاتها، تُخضع الآخر لاحتياجاتها، وتُضعف شريكه بطريقة تدريجية، صامتة، ولكنها مؤذية للغاية.
النرجسية: اضطراب أم طبع؟
النرجسية ليست مجرد غرور أو إعجاب بالذات، بل هي حالة نفسية مركبة. وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يُعد اضطراب الشخصية النرجسية أحد الاضطرابات التي تتميز بنمط ثابت من العظمة (في الخيال أو السلوك)، وحاجة مفرطة للإعجاب، وانعدام التعاطف مع الآخرين.
لكننا لا نتحدث هنا عن “اضطراب سريري” فحسب، بل عن نمط شائع قد لا يصل إلى درجة التشخيص المرضي، لكنه يترك آثارًا عميقة في العلاقات الزوجية، حيث تُصبح العلاقة مع النرجسي مرهقة، مليئة بالإحباط والتقلبات العاطفية، ويصعب فيها الحفاظ على الإحساس بالقيمة الذاتية.
في قلب العلاقة مع زوج نرجسي
في أعماق الظلام الذي يكتنف الروح، يعيش الشخص الذي ارتبط بشريك نرجسي صراعًا لا يراه أحد، معركة نفسية مريرة تلتهم كل ذرة من كيانه. البداية كانت حلمًا مزخرفًا، حيث الوعود بالحب والرعاية تملأ الأفق، لكن مع مرور الوقت، سرعان ما تحولت الأيام إلى قيد ثقيل يضغط على القلب والعقل. النرجسي، ذلك الكائن الذي لا يشبع من الإعجاب والاهتمام، يبدأ في محو شخصية شريكه ببطء، فتتسلل الانتقادات القاسية والتلاعب المستمر لتغطي كل زاوية من حياته. في كل كلمة جارحة، في كل لمسة قاسية، تتدفق الجروح النفسية، ويصبح الآخر أسيرًا لإحساس بالذنب لا يعرف مصدره.
ومع مرور الوقت، تبدأ هويته في التلاشي، ليحل محلها شعور مستمر بالتفاهة، بينما يظل النرجسي يتنقل بين أدوار الضحية والبطل، لا يعترف بخطاياه. وبينما تتساقط الذكريات الجميلة كأوراق الشجر في فصل الخريف، يظل الشخص محاصرًا في دوامة من الألم النفسي، عاجزًا عن الهروب، محاطًا بجدران من الأكاذيب والتوقعات الخادعة، فيعيش في حالة من انعدام الأمل أو التساؤل المستمر: هل سيكون هناك نهاية لهذا الجحيم؟
في العلاقات الزوجية، يُمارس النرجسي هذه الديناميكية بأساليب خفية لكنها مدمرة. من أهم تلك الممارسات ما يلي:
التلاعب العاطفي
النرجسي غالبًا ما يستخدم تقنيات مثل “Gaslighting”، أي التشكيك في إدراك الطرف الآخر للواقع، بحيث تبدأ الزوجة أو الزوج في التساؤل: “هل أنا مبالغ/ة؟ هل المشكلة فيّ؟”. كما يستعملون اللوم الدائم، ويُسقطون أخطاءهم على الآخر، فلا يعترفون بأي تقصير، بل يصورون أنفسهم كضحايا دائمين.
التعاطف المزيف
قد يظهر الزوج النرجسي في بعض الأوقات وكأنه متفهم، حساس، بل حتى نادم، لكنه سرعان ما يعود إلى سلوكه القديم. هذه “الومضات” من التعاطف ليست إلا وسيلة لإبقاء الطرف الآخر متعلقًا به، تحت وهم التغيير، في دائرة انتظار لا تنتهي.
التحكم وإلغاء الآخر
النرجسي بحاجة مستمرة للسيطرة. يبدأ ذلك بتفاصيل بسيطة: ماذا ترتدي؟ من تصادق؟ كيف تُنفق؟ ثم يتحول تدريجيًا إلى عزل اجتماعي وقمع نفسي. يُقنعك أن قراراته هي “الأصلح”، وأن اعتراضك يعني ضعفًا في الفهم أو الولاء.
الحب المشروط
في علاقة صحية، يكون الحب غير مشروط، مبنيًا على القبول والدعم. أما مع النرجسي، فالحب يُقدّم مقابل أداء دور محدد: الإعجاب به، دعمه، خدمته، تجنب انتقاده. أي انحراف عن هذا الدور يُقابل بالبرود، الانتقاد، أو العقاب الصامت.
التأثير النفسي على الطرف الآخر
العيش مع زوج نرجسي يُشبه السير في حقل ألغام عاطفي. يبدأ الشريك في فقدان ثقته بنفسه، يشعر بالذنب المستمر، ويُصاب بالإرهاق العاطفي المزمن. في حالات عديدة، تظهر أعراض مثل القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة المعقد (C-PTSD). يصبح الانفصال النفسي، ثم العاطفي، وسيلة للبقاء.
ولعل أخطر ما يفعله الزوج النرجسي هو تآكل هوية الطرف الآخر. تُصبح الزوجة أو الزوج مجرد “وظيفة” في حياة النرجسي، بدلًا من أن يكون شخصًا له كيانه، رغباته، وصوته.
لماذا يستمر البعض في العلاقة رغم الألم؟
السبب لا يعود إلى ضعف الشخصية، بل إلى ديناميكيات نفسية عميقة. الشريك غالبًا ما يكون قد خضع منذ البداية إلى إغراق عاطفي شديد، جعله يتوحد مع صورة مثالية للشريك. كما أن النرجسي بارع في قلب الأدوار، وإقناع الآخر بأنه سبب المشاكل.
أضف إلى ذلك الخوف من الانفصال، التعلق بالأمل، المسؤوليات العائلية، أو حتى نظرة المجتمع، وكلها عوامل تدفع الشخص للاستمرار في علاقة تستنزفه.
هل يمكن للنرجسي أن يتغير؟
التغيير ممكن لكنه نادر، ويتطلب أولًا وعي النرجسي بمشكلته، وقبول العلاج النفسي طويل الأمد، وهي أمور غالبًا ما يُقاومها. في المقابل، يُمكن للطرف الآخر أن يستعيد قوته النفسية من خلال:
- الوعي بالسلوك النرجسي: التسمية أداة قوية لفك الارتباط العاطفي.
- بناء الحدود النفسية: التوقف عن التبرير، التفاوض، أو محاولة الإصلاح المستمر.
- طلب الدعم المهني: من خلال العلاج النفسي الفردي.
- استعادة العلاقات الاجتماعية: لأن العزلة هي بيئة مثالية لهيمنة النرجسي.
من الضحية إلى الناجي/ة
التحرر من علاقة نرجسية لا يعني دائمًا الانفصال الجسدي، بل يبدأ أولًا بانفصال نفسي داخلي. حين يُدرك الطرف الآخر أن مشاعر الضعف، الشك، أو الفشل ليست “منه”، بل انعكاس لصورة زُرعت فيه، يبدأ مسار الشفاء.
الناجي/ة من علاقة نرجسية ليس شخصًا ضعيفًا، بل قوي بما يكفي ليرى الحقيقة، ويختار ذاته بعد أن ظل طويلًا يضع نفسه في الظل.
خاتمة
في ختام هذا المقال، نُسلّط الضوء على أهمية الوعي بـالزوج النرجسي وتأثيره العميق على الصحة النفسية والعلاقات الأسرية. إن فهم سمات الشخصية النرجسية، مثل التلاعب العاطفي، والبحث المستمر عن الإعجاب، وانعدام التعاطف، يُعدّ خطوة أساسية نحو حماية الذات وتعزيز الاستقلالية العاطفية.
تُشير الدراسات إلى أن التعايش مع شريك نرجسي قد يؤدي إلى القلق، الاكتئاب، وتدني احترام الذات، مما يُبرز الحاجة إلى الدعم النفسي المتخصص. لذا، يُنصح باللجوء إلى منصات موثوقة مثل نصغي، التي توفر استشارات نفسية سرية ومهنية، لمساعدتك في استعادة توازنك النفسي وبناء علاقات صحية.
لا تتردد في طلب المساعدة؛ فالصحة النفسية هي أساس حياة مستقرة وسعيدة.
احجز استشارة نفسية أو أسرية في منصة نصغي
أو احصل على استشارة نفسية أو أسرية مجانية
المراجع:
0 تعليق